فصل: الحكم السادس: هل يباح للحرة أن تنكشف أمام عبدها؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



د- واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فاسألوهن مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] فإن الآية صريحة في عدم جواز النظر. والآية وإن كانت قد نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن، والعلة هي أن المرأة كلها عورة.
وأما المعقول: فهو أن المرأة لا يجوز النظر إليها خشية الفتنة، والفتنةُ في الوجه تكون أعظم من الفتنة بالقدم والشعر والساق.
فإذا كانت حرمة النظر إلى الشعر والساق بالاتفاق فحرمة النظر إلى الوجه تكون من باب أولى باعتبار أنه أصل الجمال، ومصدر الفتنة، ومكمن الخطر وقد قال الشاعر:
كلُّ الحوادث مبداها من النظر ** ومعظمُ النار من مستصغر الشرر

أقول: الآية الكريمة قد عرفتَ تأويلها على رأي الشافعية والحنابلة فلم يعد فيها دليل على أن الوجه ليس بعورة. وأما حديث أسماء: «إن المرأة إذا بلغت المحيض» فهو حديث منقطع الإسناد وفي بعض رواته ضعف وفيه كلام وهو في سنن أبي داود، قال أبو داود: هذا مرسل خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة وفي إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري، نزيل دمشق مولى ابن نصر وقد تكلم فيه غير واحد انتهى.
فإذا كان هذا كلام أبي داود فيه ولم يروه غيره فكيف يصلح للاحتجاج وعلى فرض صحته فإنه يحتمل أنه كان قبل نزول آية الحجاب ثم نسخ بآية الحجاب، أو أنه منحمول ما إذا كان النظر إلأى لاوجه والكفين لعذر كالخاطب، والشاهد، والقاضي.
قال ابن الجوزي رحمه الله: ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان لعذر مثل أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها فإنه ينظر في الحالتين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها، وسواءٌ في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن.
فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟ فالجواب: أن في تغطيته مشقة فعفى عنه.
أقول: الأئمة الذين قالوا بأن الوجه والكفين ليسا بعورة اشترطوا بألا يكون عليهما شيء من الزينة وألا يكون هناك فتنة أما ما يضعه النساء في زماننا من الأصباغ والمساحيق على وجوههن وأكفهن بقصد التجميل ويظهرن به أمام الرجال في الطرقات فلا شك في تحريمه عند جميع الأئمة، ثم إن قول بعضهم: أن الوجه والكفين ليسا بعورة ليس معناه أنه يجب كشفهما أو أنه سنة وسترهما بدعة فإن ذلك ما لا يقول به مسلم وإنما معناه أنه لا حرج في كشفهما عند الضرورة، وبشرط أمن الفتنة.
أما في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه أعوان الشيطان، وانتشر فيه الفسق والفجور، فلا يقول أحد بجواز كشفه، لا من العلماء، ولا من العقلاء، إذ من يرى هذا الداء والوباء الذي فشى في الأمة وخاصة بين النساء بتقليدهن لنساء الأجانب، فإنه يقطع بحرمة كشف الوجه لأن الفتنة مؤكدة والفساد محقق ودعاء السوء منتشرون، ولا نجد المجتمع الراقي المهذب الذي يتمسك بالآداب الفاضلة ويستمع لمثل قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إصرف بصرك» فالاحتياط في مثل هذا العصر والزمان واجب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

.الحكم الثالث: ما هي الزينة التي يحرم إبداؤها:

دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} على حرمة إبداء المرأة زينتها أمام الأجانب خشية الافتتان، والزينة في الأصل اسم لكل ما تتزين به المرأة وتتجمل من أنواع الثياب والحلي والخضاب وغيرها ثم قد تطلق على ما هو أعم وأشمل من أعضاء البدن.. والزينةُ على أربعة أنواع: خلقية، ومكتسبة، وظاهرة، وباطنة فمن الزينة ما يقع على محاسن الخلقة التي خلقها الله تعالى كجمال البشرة، واعتدال القامة، زسعة العيون كما قال الشاعر:
إن العيون التي في طرفها حور ** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة على الخِلْقة لأنه لا يقال في الخِلْقة إنها من زينتها وإنما يقال فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره، والقرب أن الخلقة داخلة في الزينة فإن الوجه أصل الزينة وجمال الخلقة وبه تعرف المليحة من القبيحة وقد قال الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} فإن ضرب الخمار وسدله على الوجه والصدر إنما هو لمنع هذه الأعضاء فدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة... فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار... وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فقالوا: إنه سبحانه ذكر الزينة، ومن المعلوم أنه لا يراد بها الزينة نفسها المنفصلة عن أعضاء المرأة فإن الحُليَّ والثياب والقرط والقلادة لا يحرم النظر إليها إذا كانت المرأة غير متزينة فلما حرم الله سبحانه النظر إليها حال اتصالها ببدن الخلقية إلا أنهم متفقون على حرمة النظر إلى بدن المرأة وأعضائها فكان إبداء مواقع الزينة ومواضعها من الجسم منهيًا عنه من باب أولى.
وأما الزينة الظاهرة فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: ظاهر الزينة الثياب.
وقال مجاهد: الكحل والخاتم والخضاب. وقال سعيد بن جبير: الوجه والكفان وقد عرفت ما فيه من الأقوال للفقهاء. قال بان عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية، أن المرأة مأمورة بألا تبدي شيئًا وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء- فيما يظهر- بحكم ضرورة حركة فيما لابد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك ف {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.
وأما الزينةُ الباطنة فلا يحل إبداؤها إلا لمن سمَّاهم الله تعالى في هذه الآية {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية وهم الزوج والمحارم من الرجال كما سنذكره قريبًا.. وقد كان نساء الجاهلية يشددن خمرهن من خلفهن فتنكشف نحورهن وصدروهن فأمرت المسلمات أن يشددنها من الأمام ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط بالرأس من شعر وزينة من الحلي في الأذن والقلائد في الأعناق وذلك قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} الآية.

.الحكم الرابع: من هم المحارم الذين تبدي المرأة أمامهم زينتها؟

استثنى القرآن الكريم من الرجال الذين منعت أن تكشف المرأة أمامهم زينتها الخفية أصنافًا هم جميعًا من المحارم ما عدا الأزواج.
والعلة في ذلك هي الضرورة الداعية إلى المداخلة والمخالطة والمعاشرة حيث يكثر الدخول عليهن والنظر إليهن بسبب القرابة، والفتنةُ مأمونة من جهتهم وهم كالآتي:
أولًا: البعولة الأزواج فهؤلاء يباح لهم النظر إلى جميع البدن والاستمتاع بالزوجة بكل أنواعه الحلال.
قال القرطبي: فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محلٍ من بدنها حلالٌ له لذة ونظرًا ولهذا المعنى بدأ بالبعولة.
ثانيًا: الآباء وكذا الأجداد سواء كانوا من جهة الأب أو الأم لقوله تعالى: {أَوْ آبَآئِهِنَّ}.
ثالثًا: آباء الأزواج لقوله تعالى: {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ}.
رابعًا: أبناؤهن وأبناء أزواجهن، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن نزلوا لقوله تعالى: {أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ}.
خامسًا: الإخوة مطلقًا سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم لقوله تعالى: {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ}.
سادسًا: أبناء الإخوة والأخوات كذلك لأنهم في حكم الإخوة لقوله تعالى: {أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهؤلاء كلهم من المحارم.
تنبيه: لم تذكر الآية الأعمام، والأخوال وهم من المحارم كما لم تذكر المحارم من الرضاع، والفقهاء مجمعون على أن حكم هؤلاء كحكم سائر المحارم المذكورين في الآية... أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فالسر في ذلك أنهم بمنزلة الآباء فأغنى ذكرهم عن ذكر الأعمام والأخوال وكثيرًا ما يطلق الأب على العم قال تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] وإسماعيل عم يعقوب.. وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرها للاكتفاء ببيان السنة المطهرة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
وأما الأنواع الباقية التي استثنتهم الآية الكريمة فهم النساء، المماليك، التابعين غير أولي الأربة، الأطفال وسنوضح كل نوع من هذه الأنواع مع بيان ما يتعلق بها من أحكام.

.الحكم الخامس: هل يجوز للمسلمة أن تظهر أمام الكافرة؟

اختلف الفقهاء في المراد من قوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} فقال بعضهم: المراد بهن المسلمات اللاتي هنَّ على دينهن وهذا قول أكثر السلف.
قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} يعني المسلمات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئًا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمَةً لها.. وكره بعضهم أن تقبّل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح يقول: إنه بلغني أن نساء أهل الذميَّة عِرْيَةَ المسلمة فقام عند ذلك أبو عبيدة وابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر، لا تريد إلا أن تبيّضَ وجهها فسوّد الله وجهها يوم تبيض الوجوه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية لئلا تصفها لزوجها.. وقال بعضهم المراد بقوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} جميع النساء فيدخل في ذلك المسلمة والكافرة.
قال الألوسي: وذهب الفخر الرازي إلى أنها كالمسلمة فقال: والمذهب أنها كالمسلمة والمراد بنسائهن جميع النساء، وقولُ السلف محمول على الاستحباب ثم قال: وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات.
وقال ابن العربي: والصحيح عندي أن ذلك جائز لجميع النساء. وإنما جاء بالضمير للإتباع فإنها آية الضمائر إذ فهيا خمسة وعشرون ضميرًا لم يَرَوْا في القرآن لها نظيرًا فجاء هذا للإتباع.
وقال الأستاذ المودودي: والذي يجدر بالذكر في هذا المقام أن الله تعالى لم يقل أو النساء ولو أنه قال كذلك لحل للمرأة المسلمة أن تكشف عورتها وتظهر زينتها لكل نوع من النساء من المسلمات، والكافرات، والصالحات والفاسقات ولكنه تعالى جاء بكلمة {نِسَآئِهِنَّ} فمعناها أنه حدّ حرية المرأة المسلمة في إظهار زينتها إلى دائرة خاصة، وأما ما هو المراد بهذه الدائرة الخاصة؟ ففيه خلاف بين الفقهاء والمفسرين؟
تقول طائفة: إن المراد بها النساء المسلمات فقط، وهذا ما رآه ابن عباس ومجاهد وابن جريج في هذه الآية واستدلوا بما كتبه عمر لأبي عبيدة بن الجراح.
وتقول طائفة أخرى: إن المراد ب {نسائهن} جميع النساء وهذا هو أصح المذاهب عند الفخر الرازي. إلا أننا لا نكاد نفهم لماذا خص النساء بالإضافة وقال نسائهن.
وتقول طائفة ثالثة: إن المراد ب {نسائهن} النساء المختصات بهن بالصحبة والخدمة والتعارف سواء أكن مسلمات أو غير مسلمات وأن الغرض من الآية أن تخرج من دائرة النساء الأجنبيات اللاتي لا يعرف شيء عن أخلاقهن وآدابهن وعاداتهن فليست العبرة بالاختلاف الديني، بل هي بالاختلاف الخلقي فللنساء المسلمات.
أن يظهرن زينتهن بدون حجاب ولا تحرج للنساء الكريمات الفاضلات ولو من غير المسلمات. وأما الفاسقات اللاتي لا حياء عندهن ولا يعتمد على أخلاقهن وآدابهن فيجب أن تحتجب عنهن كل امرأة مؤمنة صالحة ولو كنَّ مسلمات لأن صحبتهن لا تقل عن صحبة الرجال ضررًا على أخلاقها.
أقول: هذا الرأي وجيه وسديد وحبذا لو تمسكت به المسلمات في عصرنا الحاضر إذًا لحافظن على أخلاقهن وآدابهن، وكفين شر هذا التقليد الأعمى للفاسقات الفاجرات في الأزياء والعادات الضارة الذميمة، التي غزتنا بها الحضارة المزيفة حضارة الغرب التي يسميها البعض حضارة القرن العشرين، وما هي بحضارة وإنما هي قذارة وفجارة ولقد أحسن من قال:
إيه عصر العشرين ظنوك عصرًا ** نيّرَ الوجهِ مسعد الإنسان

لست نورًا بل أنت نارٌ وظلم ** مذ جعلتَ الإنسان كالحيوان

.الحكم السادس: هل يباح للحرة أن تنكشف أمام عبدها؟

ظاهر قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} أنه يشمل العبيد والإماء وبهاذ قال بعض العلماء وهو مذهب الشافعية؛ فقد نصّ ابن حجر في المنهاج على أن نظر العبد العدل إلى سيدته كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة. وذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة وهو قول للشافعي أيضًا إلى أن العبد كالأجنبي فلا يحل نظره إلى سيدته لأنه ليس بمحرم. وتأولوا الآية بأنها في حق الإماء فقط، واستدلوا بما روي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه قال: لا تغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور يعني قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} فإنها في الإماء دون العبيد. وعلَّلوا ذلك بأنهم فحول ليسوا أزواجًا ولا محارم، والشهوةُ متحققة فيهم فلا يجوز التكشف وإبداء الزينة أمامهم.
وقالوا إنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء لأن الذين تقدم ذكرهم أحرار فلما ذكر الإماء زال الإشكال.
قال ابن عباس: لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته وهذا مذهب مالك.
ومما استدل به الإمام الشافعي رحمه الله ما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطَّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأسٌ إنما هو أبوك وغلامك».